غمزة لينة أو ضربة موجعة على وجوه جماعة التحرير (النبهاني)!

غمزة لينة أو ضربة موجعة على وجوه جماعة التحرير (النبهاني)!

التصنيف: حاضر العالم الاسلامي
الاثنين، 29 جمادى الآخرة 1446 هـ - 30 ديسمبر 2024
149

لماذا تتعبون أنفسكم في تحصين القرى الأمامية في فلسطين؟ ولماذا تدافعون عن حرم بيت المقدس الذي أحاط به اليهود؟ ألا تعلمون أن هذا كله عبث لا خير فيه، ولا فائدة منه؟ وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن الجهاد ولم يقاتل حتى أقام الدولة الإسلامية، فأقيموا الدولة الإسلامية أولًا، ثم دافعوا عن فلسطين.


ولا تقولوا إن اليهود خالطونا في بلدنا، وهم يطلقون الرصاص كل ليلة علينا، وأن الجهاد في هذه الحال فرض عيني، على الكبير والصغير، وعلى الرجل والمرأة، فإن هذا فقه قديم، قد نسخه المذهب الجديد الذي جاء به إمام العصر الشيخ تقي الدين النبهاني.


ولا تقولوا إن المرابطين في القرى الأمامية، قد برح بهم الجهد، وقد نال منهم الخوف والجوع والبرد، وإن الذي هم فيه لا يتحمله بشر، فإن المذهب الجديد يوجب عليهم الصبر والاحتمال، وتلقي الضربات وهم صامتون على طريقة (الدفاع السلبي) التي شرعها غاندي، حتى تقوم الدولة الإسلامية.


وإذا فاضت دجلة وغرقت بغداد، فلا تقيموا السدود، ولا تفتحوا المشارع لأن هذا كله من عمل الدولة الإسلامية. وإذا جاءت الكوليرا أو انتشر الطاعون، أو نكل المستعمرون بأهل المغرب الإسلامي، أو زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، فلا تعملوا شيئا، ولينتظر الأولاد في الشوارع لا تفتحوا لهم مدارس إسلامية حتى تقوم الدولة. وليبق الفقراء جياعا، لا تنشئوا الجمعيات الخيرية لإسعافهم حتى تقوم الدولة. ولو شبَّت النار في قبة الصخرة، أو أستار الكعبة، فلا تلقوا عليها كأس ماء، بل دعوها حتى تقوم الدولة فتكون هي التي تطفئها!


وعليكم أن تتركوا أعمالكم كلها، وتقعدوا ساعتين كل يوم، من بعد طلوع الشمس، ومن قبل الغروب، وتأخذوا المسابح، فتذكروا اسم الدولة الإسلامية أحد عشر ألفا ومئة وإحدى عشرة مرة (11111)، وهذا العدد فيه سر مجرب ذكره (الديربي) في كتابه، وبذلك تكونون قد قمتم بكل ما يجب عليكم، وحققتم للمسلمين كل أمنية يتمنونها.


أما بقية اليوم، فتفتشون عن كل مكان يجتمع فيه ناس من المسلمين، لعمل يرونه (من جهلهم) نافعًا، فتنهونهم عنه وتفهمونهم أنه لا يجوز أن نعمل شيئًا أبدًا حتى تقوم الدولة الإسلامية. وتحفظون اصطلاحات شيخكم حفظه الله، في (الروح) و(القلب) و(المبدأ) و(العقيدة) و(النظام الاجتماعي) فتمتحنون بها الناس، فمن لم يعرف ما يريد الشيخ منها، استحمقتموه واستجهلتموه.


وإن قال لكم قائل إن هذه المصطلحات لا تخرج عن كونها رأيا رآه الشيخ قد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا، وأن لغيره من الناس أن يرى غيره من الآراء. وأن هذه الكلمات بوضعها اللغوي والمجازي والعرفي تحمل ما قال الشيخ وما يقول غيره، وليست حقائق علمية متفقا عليها، وليست بديهيات لا يثور عليها خلاف- إن قال هذا قائل، فاعلموا أنه جاهل لا يقام لقوله وزن.


وإن اعترضكم مشاغب فقال لكم: كيف تنهون الناس عن الأعمال التي يرونها نافعة بحجة أنها تعوق عن الوصول إلى الغاية وهي الدولة الإسلامية، وتشغلونهم بهذه الجدليات الفارغة، وتضيعون عليهم بذلك وقتا وجهدا يكفي بعضه لتحقيق تلك الأعمال.


فقولوا: هكذا قال لنا شيخنا، ولا يخلو ذلك من حكمة، ولكن عقولنا وعقولكم لا تصل إلى إدراك حكمة الشيخ.


هذا يا أيها القرَّاء، دستور حزب (إسلامي...) جديد، ظهر في ديارنا، في القدس اسمه: التحرير، عمله الأوحد (ذكر) الدولة الإسلامية و(التفكير) فيها، وانتظارها كما ينتظر بعض المسلمين ظهور المهدي، الذي يملأ الأرض عدلًا، كما ملئت جورًا، وأنا لا أعرف أحدًا من أتباع هذا الحزب معرفة فضلًا عن أن يكون بيني وبينه صداقة أو عداوة، ولا أصدر فيما أكتب عن حب أو بغض، ولكني أبصرت مبلغ الخطر في هذه الدعوة، فرأيت أن أغمز أصحابها غمزة لينة لا تبلغ أن تكون لكمة موجعة، أملًا مني في رجوعهم إلى الحق، وأنا أكره والله أن ألمس بقلمي أحدًا يدعو إلى الإسلام أو يتسمى به، أو ينتسب إليه، فضلًا عن أن أسلطه عليه، وأحاربه به، ولو أني آثرت مصلحة المسلمين ببيان حقيقة هذا الحرب، ما كتبت عنه كلمة.


***


وكيف يجوز لنا السكوت عنهم وهم يحاولون تعطيل كل عمل نافع، ومنع كل إصلاح، وإبطال الجهاد، بل لقد وصلت بهم الحال، أن قالوا بإسقاط فرض الصلاة حتى تقوم الدولة الإسلامية؛ احتجاجًا بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الحج:41]!


ولقد وقع إليّ بعض كتب الشيخ، فوجدت فيها مآخذ عليه، كثيرة جدًّا، ولكني لم أجد التصريح بهذا الذي يقوله أتباعه، فقدرت لذلك أحد الاحتمالين:


إما أن يكون للشيخ أشياء سرية، يكتمها في كتبه تقية، ويصرح بها لجماعته، وإما أنه عاجز عن الإفهام، لا يستطيع أن يبين عن مقصده فيأخذ مريدوه عنه ما لا يقصد.


وكنت لا أزال حسن الظن فيه فقبلت الاحتمال الثاني، ورجحه لدي أن أسلوبه في كتبه أسلوب فظيع، يجمع بين اليبوسة وضعف التأليف وأن قارئه يحس كأن كلماته حجارة تقرع رأسه، أو كأنها ماء مثلج يساقط عليه عاريا وسط كانون الثاني. وإن من كان هذا أسلوبه في كتابته، لا يبعد أن يكون عييّاً في لسانه، مضطربا في منطقه.


ولكن رسالة جديدة لهذا الشيخ النبهاني حملها إليّ بعض الأصدقاء، هدمت حسن ظني فيه، وأرتني أن ما حسبته شحما ولحما، لم يكن إلا وَرَما، وأن ما بدا لي كعضلات المصارع لم يكن إلا خرقا ملفوفة، وأن العمامة والجبة وزي العلم، لم يكن كله إلا ثياب المسرح، أعد لتمثيل (الرواية) فلما انتهت انتهى.


وإن هذا (التحرير) لم يكن إلا تحريرا للناس من عبودية الأخلاق وقيود الفضيلة وأن هذه هي النهاية، أو لعلها بداية النهاية وستكون نكسته كنكسة القصيمي الذي بدأ بكتاب (الصراع) وانتهى بأن وضع في عنق نفسه (الأغلال) إلى النار.


***


وإن دعوت إلى إسعاف منكوبي الفيضان قالوا: حتى تقوم الدولة الإسلامية. وكيف يتصور هؤلاء (البشر) الدولة الإسلامية؟


هل يرونها شيئًا يُزرع أو يُصنع أو يُستورد، أو يطلع من البحر أو ينزل من السماء؟


إن الدولة (وإن لم يحدد لها تعريف علمي) لا تقتصر على الحكومة، بل تدل بمعناها على أوسع من ذلك، على أجهزة الحكم كلها من البرلمان إلى الوزارة إلى المحكمة إلى المخفر والسجن، وهي تنبثق عن الشعب، وتتبع في صلاحها وفسادها، صلاحه وفساده، و"كيفما تكونوا يول عليكم"، وإقامة الدولة لا تكون إلا بتنشئة الناشئة على الإسلام، ورد الكبار إليه، حتى إذا كثر سواد المتدينين، صبغوا الحكومة بصبغتهم، وهذا ما درج عليه الإسلام، وهذا هو الطريق الذي سلكه كل حزب في الدنيا، إلى استلام الحكم، وضمان تأييد الجماهير.


وهذا هو المنطق الذي يقول به كل عاقل، إلا هؤلاء الذين يريدون إصلاح الجماعة قبل إصلاح الفرد، وإقامة الدولة قبل رد العدو، ودفع الأمراض، ودرء المفاسد، وإتمام البناء قبل نحت حجارته، وبناء جدرانه!


ثم إن الدولة (إن وجدت) لا تستطيع عمل كل شيء، ولا تملك التصرف في خصوصيات الآحاد من الناس، وطعامهم ولباسهم وعاداتهم في بيوتهم، وأفكارهم وآرائهم وأخلاقهم. إنما يملك ذلك المعلم الذي يربي الناشئة، والصحفي الذي يوجه الناس، وخطيب المسجد، ومحدث الإذاعة، ومؤلف الكتب، ومن الجهل، أو من الحمق، أو من العبث، الاتكال في إصلاح ذلك كله على الدولة.


أنا لا أزال آمل أن يرتد هؤلاء الناس إلى الحق، ولذلك كتبت لهم بهذا القلم، وأرجو ألا أضطر يوما إلى اتخاذ (القلم الآخر) الذي يكوي كي الجمرة، ويلذع لذع النار، ويطعن طعنات، لا يكتب لها البرء، ولا يتم الشفاء.


وأنا أسأل الله إن كنت على حق أن يثبتني عليه، وإن كنت مبطلا أو ظالما، أن يردني إلى الحق والعدل، ويهون عليّ الرجوع إليهما والإقامة عليهما، وأن لا يجعلني حرباً على مسلم.


***


هذا وما ندري ما الذي ينبثق عن هذا الذهن العجيب، في مقبلات الأيام، وأول الغيث قطر ثم ينسكب، فهل يصح بعد هذا أن نسكت عنه؟


وأنا لا أكره الدعوة إلى الدولة الإسلامية، معاذ الله رب العالمين، ولقد كنت أدعو إليها، في كتاباتي في الرسالة، التي كانت تأتي التعليقات عليها (والله) من أقصى المغرب ومن إندونيسيا يوم لم يكن يعرف اسم الشيخ إلا إخوته وأبناء عمه، ويوم لم يكن وُلِدٌ أحد من هؤلاء الشباب الذين إن قلت: أعينوا أهل القرى الإمامية، قالوا: لا، حتى تقوم الدولة الإسلامية. وإن قلت: حاربوا البغاء ودافعوا الفجور، قالوا: حتى تقوم الدولة..


***


ذلك أن الشيخ يصرح في هذا الكتاب تصريحا لا تلميحا، بأن الأخلاق لا أثر لها في نهضات الأمم، ويقبح عمل الجمعيات التي قامت لحفظها وإكمالها، ويرى بأن آية {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وصف لشخص الرسول لا للمجتمع، وأن حديث "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" مقصور على الفرد لا الجماعة، ومعنى ذلك في عقل هذا الشيخ، أن الرسول إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق في فرد واحد، في خديجة مثلا، أو علي، لا في المجتمع! ثم يسفه بيت شوقي المشهور "وإنما الأمم الأخلاق" ويحكم عليه بالخطأ البين، والضلال المبين!


ولا تقولوا للشيخ، إن المجتمع مؤلف من أفراد، أنه (على طريقته في ابتكار المصطلحات، ورد البديهيات) يقرر أن ذلك مبني على الفهم المغلوط -كذا- لمعنى المجتمع.


فإن قلت: ما الفهم الصحيح يا مولانا؟ أفدنا أفادك الله. قال: إن المجتمع مكون من أجزاء هي الإنسان والأفكار والمشاعر والأنظمة وإصلاحه لا يكون بإصلاح الفرد بل بإصلاح الجماعة.


وشرح فلسفة الشيخ هذه، أنه إن كان لك ثلاثة أولاد، فاجتمعوا (جماعة)، ولعبوا في الشارع، وتلطخوا بالوحل، وأردت أن تنظفهم فلا تنظف كل فرد على حدة، فهذا هو المذهب المغلوط...) بل اترك كل واحد من الثلاثة بوحله، ونظف (الجماعة) رأسًا، على المذهب الصحيح.


هل فهمتم شيئًا؟ ولا أنا!


ثم يقول: "وبالرغم من إخفاق جميع الحركات الإصلاحية التي قامت على أساس القاعدة الخلقية- قلت: ومنها طبعا حركة من بعث لإتمام مكارم الأخلاق- فإن الناس لا يزالون مقتنعين بأن هذه القاعدة هي أساس الإصلاح".


قلت: مساكين هؤلاء الناس.


"وفساد الجماعة آت من فساد مشاعرها الجماعية ومن فساد أجوائها الفكرية والروحية".


قلت: وهذا غير مفهوم.


"وبعبارة أخرى، إنه آت من فساد العرف العام وإصلاحها لا يأتي إلا بإيجاد العرف العام الصالح. وبتعبير آخر إن الإصلاح بإيجاد الأجواء الروحية الصحيحة، والأجواء الفكرية التي تتصل بالناحية الروحية".


هكذا هكذا، وهذا كلامه بحروفه، ما تزيدت عليه، ولا بالغت، فمن فهم ماذا يريد الشيخ أن يقول، فليتفضل بإفهامي وله الشكر.


وأنا أسألكم بالله أهذا كلام رجل يدري ما يقول؟ وهذا كلام داعية إلى الإسلام؟


وماذا يبقى لنا إن هدمنا الأخلاق، وطرحناها من حسابنا، وهل تعرفون في الدنيا كلها، فيمن شرق من أهلها أو غرب، ومن غبر ومن حضر، عاقلًا واحدًا يقول الذي قاله الشيخ؟!.


علي الطنطاوي

المصدر: مجلة الصريح - المقالة الكاملة جزآن، الأول في ٧ أيار ١٩٥٥م، والثاني في ١٤ أيار ١٩٥٥م.

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

الاسلام على مفترق طرق - محمد بن عمر بن سالم بازمول
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009الاسلام على مفترق طرق - محمد بن عمر بن سالم بازمول
يرى المسلم في هذا العصر اختلافاً كثيراً حيثما وجّه وجهه، سواء في باب مسائل الفقه من عبادات...
مرجعيّة - قيم الإسلام تناسب الإنسان ، وتلائم فطرته ، وتقدّم أساساً سليماً لتطوّره
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009مرجعيّة - قيم الإسلام تناسب الإنسان ، وتلائم فطرته ، وتقدّم أساساً سليماً لتطوّره
  مرجعيّة " القِيَم " عند المسلم   منذ القرون الإسلاميّة الأولى بحث...
تعريف بركن حاضر العالم الإسلامي - رسالتنا
الأربعاء، 12 شوال 1430 هـ - 30 سبتمبر 2009تعريف بركن حاضر العالم الإسلامي - رسالتنا
ركن : حاضر العالم الإسلامي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في تو...