الأداء النقدي لزكاة الفطر (رؤية مقاصدية)

الأداء النقدي لزكاة الفطر (رؤية مقاصدية)

التصنيف: مقالات شرعية
الجمعة، 28 رمضان 1446 هـ - 28 مارس 2025
67

يثور معترك فقهي سنوي نشط حول الأداء النقدي لزكاة الفطر بين توسيع وتضييق، تدور رحى هذا الخلاف عند حدود تفسير الفعل النبوي وما تلقي به الحمولة الدلالية للنص في هذه القضية، وتروم هذه السطور قيد عدد من النقاط التوضيحية التي نجلو مضامينها في الرقيم الآتي:

أولًا: صحيح أن زكاة الفطر عبادة، والعبادات جوامد لا تعلل عند الجمهور، إلا أن الخلاف في تعليل العبادات ينحصر في العلل المستنبطة لا النصية، ثم الخلاف في العلل المستنبطة يكمن في الجزئيات الفروعية أما كليات العبادات فمعللة .. وقطع منحى التعليل العبادي من الأصوليين إنما كان لملحظ العلة القياسية وليس العلة المقاصدية. والزكاة في صورتها العامة معلومة الهدف والمقصد وقد أوضح ابن جرير الطبري(ت:310) النتيجة التي تتغياها الزكاة بأنها لسد خلة المسلمين أو لسد خلة الإسلام، فقال: «الله جعل الصدقة في معنيين؛ أحدهما: سد خَلَّة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته».
وزكاة الفطر معاملة معقولة المعنى، ومعلومة المقصد والعلة التشريعية لفرضها، وقد فهم فقيه الحلال والحرام الصحابي الجليل معاذ بن جبل - رضي الله عنه- هذا المعنى في الزكاة بصورة عامة فعند أخذه الزكاة من أهل اليمن، قال لهم: (ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين) وهذا دليل على جواز إخراج القيم كما قرره عمر بن عبد العزيز وسيأتي.

ثانيا: إذا تدبرنا النصوص الواردة في قصديتها كحديث ابن عباس «فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر ، طُهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين» رواه أبو داود بسند حسن ، وحديث ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أغنوهم عن الطلب - أو السؤال - في هذا اليوم» رواه الدارقطني بسند ضعيف مستأنس به في المعاضدات، تجلت لنا قصدية مشروعية هذه الزكاة واضحة لمن له مراس مع أدلة التشريع، وملاحظة سلوك نصوصه، وهي: «إغناء الفقراء عن السؤال والحاجة في العيد ، تكميلا لسرورهم في مناسبته» ، وحاجة الفقير اليوم لا تقتصر على الطعام فحسب ، بل تتعدّاه إلى اللباس والحلويات وغيرها من احتياجات العيد، وقد رأيت من الناس من يأخذ الطعام ويبيعه بثمن بخس على أصحاب المطاحن والتموينات ليأخذ ثمنه يشتري به الملبس ومطلوبات العيد.

ثالثا: الذي يظهر لي أن العلة في تعيين الأصناف في الحديث ( شعير - تمر - زبيب - أقط) هي البيئة الاجتماعية ذلك الحين فيستحيل أن يصدر نص غير مراع لبيئته وملابساتها واحتياجاتها، وقد كانت الحاجة إلى الطعام والشراب ملحة ، وكانت نُدرة النقود أيضا شائعة، فمعظم معاملاتهم كانت تتم مقايضة، ولا يوجد كسر من الدرهم والدينار يوازي زكاة الفطر . فكيف للشارع الحكيم أن يتخطى أبعاد بيئتهم الاجتماعية واقتصادها، بالنقد تتحقق عمومية الشريعة ومراعاة جغرافية المتلقي ما لا يتحقق بالطعام.

رابعا: هناك عدد من الفقهاء رجحوا تلك العلة قديمًا وحديثًا وصحبوها في فتح باب الإجزاء النقدي لزكاة الفطر، وقد قال أبو إسحاق السبيعي(ت:127) التابعي الثقة: «أدركتهم وهم يؤدون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام» ، وممن رأى هذا الرأي الحافظ ابن أبي شيبة(ت:235)، إذ ترجم له في مصنفه: (باب إعطاء الدراهم في زكاة الفطر)، وذكر كتاب عمر بن عبد العزيز(ت:101) إلى عامله على البصرة، الذي جاء فيه: «يؤخذ من أهل الديوان، من أعطياتهم، على كل إنسان نصف درهم» يعني زكاة الفطر.
وهذا ظاهر مذهب رائد التدوين الحديثي الإمام البخاري(ت:256) فقد قال ابن رشيد السِّبتي(ت:721): «وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، قاده إلى ذلك الدليل». (فتح الباري 57/5)، أما الإمام أبو حنيفة(ت:150) فهو قوله الذي يتسق معه عقليته وفكره ويتماشى مع سلوك مذهبه، وقول في مذهب الحنابلة جوزه الإمام ابن تيمية(ت:728) إذ قال: «وأما إخراج القيمة للحاجة، أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به» ( الفتاوى 82/25).
ورأى العلامة شمس الدين القرطبي المالكي(ت:671) في موسوعته التفسيرية (الجامع لأحكام القرآن) عند تفسيره لآية مصارف الزكاة، اعتبار سد حاجة الفقير بأي شيء يناسبه فقال: «وإنما أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم، فأي شيء سد حاجتهم جاز، قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) فلم يخص شيئًا من شيء» اهـ .
أما أستاذ المقاصد الشرعية ورائدها الثاني من بعد الشاطبي الإمام محمّد الطاهر ابن عاشور(ت:1393) فذكر في الفتاوى التونسية ( 2/734) الرأي القائل بجواز الإخراج النقدي فيها فقال: «يجوز إخراج قيمة الصاع على قول ابن دينار وابن وهب وأصبغ من أصحاب مالك رحمهم الله، وهو الذي اختاره ابن رشد في البيان والتحصيل» وبه أفتى ولده مفتي تونس في عهد أبيه العلامة الفاضل ابن عاشور(ت:1390) كما في «جوهر الإسلام» ص(61).
ورجح هذا الرأي رائد موسوعة (فقه الزكاة) الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله، فبعد تحرير جيد للنصوص قال: لقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من بعض الحبوب والثمار، كالشعير والتمر والزبيب، فقاس الشافعي وأحمد وأصحابهما كل ما يقتات، أو غالب قوت أهل البلد، أو غالب قوت الشخص نفسه، ولم يجعلوا هذه الأجناس المأخوذة مقصودة لذاتها تعبدًا، فلا يقاس عليها. واختارت هذا الرأي اليوم معظم المجامع الفقهية.

وأخيرا أقول: تسويق الإفتاء الإجباري عالميًا بوجوب إخراج الطعام دون غيره وحكاية عدم الإجزاء لمن أخرجها نقدا غير سديد ولا مناسب، والأصل أن يتتبع حالة الأمن الغذائي المتوفر في أكثر مناطق العالم، وحاجة الفقراء إلى حرية التصرف بالصدقة، وقبل ذلك سهولة نقل الصدقة من المتصدق إلى المسكين.
وعلى أي حال فإخراج أحد الأمرين مجزئ ولا حرج.
والله تعالى أعلم.


بقلم: د. الخضر سالم بن حُليس

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

مقالات ذات صلة

تعريف بموسوعة مَعْلَمة القواعد الفقهية
الخميس، 16 صفر 1443 هـ - 23 سبتمبر 2021تعريف بموسوعة مَعْلَمة القواعد الفقهية
إعداد: د. إبراهيم محمد الحريري الخبير بمعلَمَة القواعد الفقهية (مجمع الفقه الإسلامي بجدة)...
الأخذ بالرخصة
الخميس، 16 صفر 1443 هـ - 23 سبتمبر 2021الأخذ بالرخصة
            كتبه: طه محمد فارس   الرخصة في اللغة: اليس...
(لا يفتي قاعدٌ لمجاهد) قاعدة فقهية أم بدعة محدثة
الخميس، 16 صفر 1443 هـ - 23 سبتمبر 2021(لا يفتي قاعدٌ لمجاهد) قاعدة فقهية أم بدعة محدثة
  التأصيل الشرعي: إنَّ مقولةَ ( لا يفتي قاعدٌ لمجاهد) ليست مِن القواعد الفقهية، أو ال...