الشيخ جعفر مسعود الحسني.. العالم الرباني والمربي المخلص

الشيخ جعفر مسعود الحسني.. العالم الرباني والمربي المخلص

التصنيف: علماء دعاة مربون
الاثنين، 5 شعبان 1446 هـ - 3 فيفري 2025
1648
جعفر مسعود الحسني الندوي...
جعفر مسعود الحسني الندوي...
الميلاد :- الوفاة :

إن الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وإن الآخرة هي دار القرار والجزاء. فلا عجب أن نجد في أحداثها دروسا عظيمة تذكرنا بحقيقة الدنيا وزوالها، وتعيد إلى الأذهان معنى حكمة الله عز وجل من هذا الوجود.
ومن الدروس ما نستقيه من رحيل العلماء والمربين، الذين بغيابهم تخبو أنوار العلم وتضيق مساحات الهداية.
لقد كان الشيخ الأستاذ المربي السيد جعفر مسعود الحسني رحمه الله رمزًا للعالم العامل والمربي المخلِص، فقد جمع بين التواضع والهيبة، وبين الصمت المعبر والتأثير العميق.
كان يدير منصب الأمين العام لندوة العلماء، وهو منصب عظيم بثقله ومسؤولياته، لكنه لم ير فيه تشريفًا بل تكليفًا وأمانة.
لقد كان عمل بصمت وأثر بعمق، وكان ممن يخدمون الناس ولا ينتظرُ منهم جزاء ولا شكورًا، مجسدًا بذلك قول الله تعالى: "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا" [الإنسان: 9].
لقد من الله علي أن عشت قريبًا من هذه الأسرة المباركة سنوات طويلة، وخاصة أيام طلب العلم في دار العلوم التابعة لندوة العلماء خلال شهر رمضان المبارك، حين كنتُ أخصُّ تلك الليالي المباركة بالاعتكاف في تكية، راي بريلي، مستشعرًا نفحات الروح وقضيت فيها ما يقرب من سبع أو ثمان رمضانات. ولا أنسى تلك الأيام المباركة التي عايشت فيها روح الكرم والإيثار.
كان الشيخ جعفر مسعود وأسرته مثالًا حيًا للضيافة الإسلامية، التي ليست مجرد كلمات، بل أفعال تترجم الأخلاق النبوية إلى واقع. كم مرة رأيت الشيخ رحمه الله يجلس معنا يسأل عن أحوالنا ويشاركنا الطعام ببساطة ووُد، وكأنه يجسّد قيم الإسلام الحقيقية بأفعاله قبل أقواله، معلمًا أن العيش بهذه القيم أبلغ من مجرد الدعوة إليها.
لقد قدر الله لي أن ألتقي بالشيخ جعفر مسعود الحسني رحمه الله قبل شهرين في مدينة جيفور، حيث قدمت ورقة علمية عن امتزاج الشريعة والطريقة في تربية الشيخ الشاه محمد عبد الرحيم المجددي رحمه الله وذلك في المؤتمر الأربعين لرابطة الأدب الإسلاميِّ الذي انعقد في جامعة الهداية في جيفور يومي ١٥و ١٦ نوفمبر ٢٠٢٤. كان الشيخ سعيدًا جدًا بما قدمت، وقال لي بلطف وتشجيع: "أحسنت! وقد علمتُ أنك تكتب المقالات باللغة الإنجليزية، ولكن احرص أن ترسلها إلينا مع ترجمتها باللغتين الأردية والعربية حتى ننشرها هُنا أيضًا".(1)
هذا هو الشيخ، كان دائمًا يعطي الناس الثقة بأنفسهم ويشجعهم على الإبداع والعمل المثمر. في اليوم الثاني من لقائنا، قمت بإنشاد نشيد باللغة الأردية، وبعد أن أنهيته، قال لي بتعجب: "لم أكن أعلم أن لك صوتًا جميلًا بهذه الروعة". هذه اللحظات تعلمنا درسًا عظيمًا، خاصة نحن المعلمين، أن نكون مشجعين لطلابنا، ونكشف لهم عن مواهبهم، ونمنحهم الثقة بأنفسهم. فقد كان الشيخ رحمه الله يجسد هذا المبدأ في كل مواقفه.
لم يكن الشيخ جعفر مسعود عالمًا فقط، بل كان رجلًا يحمل قلبًا كبيرًا مليئًا بالحب. تجلت إنسانيته في مواقف عدة، منها حرصه على الاطمئنان على طلابه وزملائه، واهتمامه بحال كل من حوله. كان يبادر إلى تقديم الدعم النفسي والمعنوي، وكأنه يرى في كل شخص مسؤولية تجاهه. ومن أروع ما عرفته عنه تلك اللحظات التي كان يجلس فيها مع الجميع، يشاركهم أحوالهم بصدق ولين، ويشعر كل واحد بأنه في قلبه وعقله دائمًا.
كانت علاقته بوالدي رحمهما الله علاقة مميزة. كان والدي رحمه الله قد انتقل إلى المملكة المتحدة في الثمانينات، لكن الاحترام الذي كان يحمله الشيخ جعفر مسعود رحمه الله لأستاذه، كان عظيمًا جدًا، حتى أنه كان دائم السؤال عن صحته وأحواله. وبعد وفاة والدي قبل أسبوعين، كان الشيخ جعفر من أوائل من اتصل بي ووالد زوجتي، الشيخ محمد فضل الرحيم المجددي ليواسينا. وكانت مكالمته أكثر من كلمات التعزية، بل كانت رسالة صادقة ممتلئة بالوفاء والحنان. شعرت أنه لا يواسيني فقط، بل يشاركني ألم الفقد بعاطفة صادقة، ويخفف عني وزر الحزن بلين كلماته وصدق مشاعره.
لقد كان رحيل الشيخ فجأة، وكأنه يذكرنا بحكمة الله تعالى في قبض الأرواح، ويدعونا للتفكر في أعمارنا وأعمالنا قبل أن يفاجئنا القدر في لحظة لا نتوقعها.
كان الشيخ رحمه الله جالسًا خلف أحد مرافقيه على دراجة نارية في طريق عودته، توقف لحظة ليعدِّل رداءَه، فإذا بالقدر يسبق الأمل، ويفجعنا بوفاته. هذه اللحظة تذكرنا بقوله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت" [ آل عمران: ١٨٥]. وإن هذه اللحظة تجعلنا نتأمل: ماذا قدمنا لآخرتنا؟ وما هو الإرثُ الذي سنتركه وراءنا؟
ومن أبرز ما يميّز الشيخ جعفر مسعود الحسني رحمه الله، التواضع الذي كان سمةً بارزةً في شخصيته. حتى في رحيله، ظهر هذا التواضع الجليل الذي علّمنا من خلاله درسًا عظيمًا.
لقد كان بإمكانه، وهو أمين العام لندوة العلماء، أن يحصل على كل وسائل الراحة التي قد تُتاح لمن هم في مثل مكانته. ولكنه اختار أن يعيش حياة البساطة والزهد، حياة تُذكّرنا بسير العلماء العاملين والزاهدين الذين سبقوه. كنتُ أتأملُ كثيرًا في هذا الجانبِ من حياته، ووجدت فيه شبهًا كبيرًا بشيخنا أبي الحسن الندوي رحمه الله، وأفراد عائلته المباركة، الذين عاشوا حياة التواضع والبعد عن المظاهر.
لقد كانت هذه البساطة درسًا عمليًا لكل من عرفه، تذكيرًا بأن العظمة الحقيقية ليست في المكانة الاجتماعية أو المظاهر الدنيوية، بل في قرب الإنسان من الله، وفي أثره الإيجابي على من حوله. هذا التواضع الذي عاشه الشيخ جعفر مسعود الحسني رحمه الله لم يكن ضعفًا، بل كان عظمة ورسوخًا في الإيمان، وتصديقًا لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (رواه مسلم).
رحمك الله يا شيخنا الجليل، فقد كنت أفضل معلم، وأصدق مُرب. نسأل الله جل وعلا أن يتغمد شيخنا الجليل بواسع رحمته، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يلحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.


1- يمكنكم مشاهدة الورقة المقدمة في المؤتمر عبر الرابط التالي:
https://youtu.be/YfHPfU8fDt0?si=H2xpADCcC_BDKdHv


بقلم: حذيفة علي الندوي

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين