وراثة ومتابعة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المسيرة الدعوة لجدي الشيخ محمد علي مشعل رحمه الله تعالى وراثة عن مشايخه ومتابعة لسيرتهم في الدعوة إلى الله تعالى. وسبق أن كتبت في "السيرة العلمية" عن طلبه للعلم وتعليمه له، وكتبت في "الجلال والجمال" عن شخصيته، وتأتي هذه "المسيرة الدعوية" عن التجربة الدعوية عند الشيخ وحمله همّها وقيامه بواجبها بعد أن تلقى عن شيوخه شمول مفهومها وثبات مبادئها وجمال آدابها ولزوم الحكمة والصبر والتضحية في طريقها.
القسم الأول: الوراثة
١. غرس والديه وعمّه
في سهل الحولة من حمص الشام، ولد الشيخ محمد علي مشعل عام ١٩٢٤م وقد تم لوالده الشيخ حاج محمد مشعل من العمر ستون سنة وفي نشر العلم والدعوة أربعون سنة. فكانت نشأة الشيخ الأولى غرس والده ووالدته الشيخة سارة وصحبة عمّه الشيخ حسين وشهود مريدي والده الذين أصبحوا تلاميذ عمّه كذلك وأئمة القرى المجاورة، ومنهم الشيخ مرعي الضاهر والشيخ محمد غاوي التركماني والشيخ خالد شموطي والشيخ أحمد العكش وأخوه سعيد العكش. وتربى على العلم والتزكية، والاجتهاد في الذكر والعبادة، والخروج في الدعوة إلى الله تعالى. فدرج يشهد مجالس والده في الزاوية مع المريدين واجتهادهم في العبادة، وكذا مجالس والده ثم عمّه في الفتوى وتقسيم الميراث والتحكيم لأهل المنطقة والقرى المجاورة من أهل السنة وغيرهم، ثم كان الشيخ المرجع بعد والده وعمّه رحمهم الله جميعا.
وكان عمّه يصحبه في خروجه للدعوة في القرى، وكان عمّه أعلم مريدي والده، وتخرّج الشيخ من كتّاب عمّه قبل أن يلتحق بالابتدائية، وكان أهله ووجهاء بلدته تلدو يفخرون به منذ بلوغه سبع سنوات، فحكى لنا كيف كان يجلسه معمران من الوجهاء بينهما ويجمعون له أهل البلدة ليلقي موعظة أو يعلم مسألة. وفي عمر التسع سنوات وهو في المدرسة الابتدائية، كلّفه الأستاذ عبد العليم ابن الشيخ أحمد صافي رحمهما الله بإلقاء كلمة أمام محافظ حمص. ولما بلغ أحد عشر عاما كلّفه والده وعمّه برقي منبر الجمعة وإلقاء الدروس العامة. وأحاطه الله بأنظار عمه إلى وفاته عام ١٩٥٣م، وأكرمه تعالى بأنظار والده إلى وفاة والده عام ١٩٦١م وهو بقوته يصعد التلة ويتوضأ بنفسه.
٢. صحبة الأعلام
ومنذ نزل الشيخ محمد علي مشعل حمص للالتحاق بدار العلوم الشرعية عام ١٩٣٥م وهي مدرسة وقفية يقوم عليها مشايخ حمص ويديرها الشيخ زاهد الأتاسي رحمه الله، التزم كذلك حضور دروس علمائها في الجامع النوري الكبير وجامع سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وجامع بازرباشي. وكان في خدمة مشايخه والتلمذة عليهم حتى تخرجه عام ١٩٤٠م ثم مكث عشر سنوات في حمص في حلقاتهم التخصصية وفي تدريس العلم تحت إشرافهم، فأخذ مع العلم من سَنِيّ أحوالهم ووعى من لطيف ألحاظهم وسمع من دقيق ألفاظهم وحصل له من رعايتهم وتوجه قلوبهم مع كان من والده وعمه الكثير الذي فتح الله به عليه مما بقي يهذّب نفسه ويشحذ عقله ويجمع قلبه وينور طريقه فكان يرى أنه يعيش ببركة أنفاسهم حتى آخر سِنِيّ حياته.
وتأثر بعزة والده الروحي في حمص الشيخ عبد القادر خوجة شيخ حمص الذي كان يمشي بالبندقية والسيف أيام الاحتلال الفرنسي. وبالشيخ محمد علي عيون السود الذي كان شيخه وفي مقام والده كذلك وكان متميزا بأسلوبه الذي وصفه الشيخ بأنه يفيد حتى قليل الذكاء وضعيف الفطنة. وتأثر بشيخه الشيخ طاهر الرئيس الذي كان يحتسب الساعات الطوال في غرفته للفتوى وإصلاح ذات البَين، وكان الشيخ محمد علي مشعل غالبا مداوما فيها عندما يكون في حمص.
٣. روح الجهاد
وعاش الإضراب الكبير الذي دام ستين يوما ضد الفرنسيين مطلع عام ١٩٣٦م. وكان يدرس فيها مع العلماء في جامع سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفي شباط/فبراير قبلت فرنسا التفاوض مع هاشم الأتاسي، وانتهى الإضراب الستيني في آذار/مارس بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المبعدين. وتكرر الاضطراب وخرجت المظاهرات، وكان العلماء يقومون بقيادة التحركات ضد الفرنسيين وكان السلاح يوزع في المساجد وكان الطلبة يشاركون بضرب شرطة الأمن بالحجارة، وكان الذاكرون يشتغلون بورد اللطيفية، وتولى هاشم الأتاسي الرئاسة في كانون الأول/ديسمبر.
وكذا شهد قيام الجهاد في فلسطين عام ١٩٤٨م، ومعسكرات التدريب واندفاع الشباب إليها والاختيار منهم والمعارك المشرفة. وشهد دور أستاذه الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله الذي وصفه بأنه القدوة الحسنة للمجاهدين والعاملين والدعاة المخلصين. وكان يحكي كيف دخل السباعي المجلس النيابي ووضع البندقية على الطاولة وقال: "اليوم البندقية تتكلم" وخرج إلى فلسطين.
٤. دور العلماء
وعايش همّ الأمة واجتماع كلمة العلماء وتداعيهم لعقد مؤتمر العلماء الأول بدمشق عام ١٩٣٨م برئاسة الشيخ طاهر الأتاسي وكان خمس العلماء المجتمعين فيه من حمص من مشايخه وإخوانه الأسن الذين تخرجوا من دار العلوم الشرعية رحمهم الله جميعا. وفيه تباحث العلماء فيه أوضاع البلاد والعالم الإسلامي وما يجب عليهم السعي فيه والتأكيد عليه والتحذير منه، ومقرراته حصيفة ومراجعتها مفيدة.
٥. الصدع بالحق
وتأثر الشيخ محمد علي مشعل بشيخه الشيخ أبو السعود عبد السلام بن محمد الياسين بسمار رحمهما الله الذي كان مبرّزا منذ نزل الشيخ حمص حيث ورث الشيخ أبو السعود مقام ونشاط والده الذي أقعده الكبر، فكان فاعلا في المجتمع باسم جمعية الرابطة الدينية ثم شباب محمد صلى الله عليه وسلم ثم جمعية العلماء، وكان يقوم بدوره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى قال عنه جدي رحمه الله: "كان جريئا في قول الحق لا يخاف في الله لومة لائم". ومن جرأته في الأمر بالمعروف عام ١٩٣٩م وجه خطابًا إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والمندوب السامي الفرنسي باسم جمعية العلماء وجمعية الشبان المسلمين يحتج بها على نظام الطوائف، وإقحام النفوذ الأجنبي في الأمور الدينية، وعلى اعتماد كتب لتدريس التاريخ في المدارس الفرنسية تحوي على انتقادات لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذا تأثر بشيخه في خدمته للمجتمع حيث كان مدير جمعية البر والخدمات الاجتماعية.
واستمر الشيخ أبو السعود فاعلا في المجتمع وصادعا بالحق ومن ذلك توقيعه مع علماء سورية على بيان لجنة تحرير المغرب العربي عام ١٩٥٦م بخصوص نصرة الجزائر، وحتى نحو عام ١٩٦٥م شارك في بيان نصرة باكستان من أجل كشمير الذي وقع عليه كذلك تلميذه الشيخ محمد علي مشعل وغيرهما من علماء حمص، وكذا شاركا في مناقشة المسؤولين بخصوص الدستور في دار مفتي حمص يوم الخميس ١ شباط/فبراير عام ١٩٧٣م. .
٦. جمع الكلمة
وفي السنة الأخيرة للشيخ محمد علي مشعل في دار العلوم الشرعية كان الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله قد عاد إلى حمص ودرّسه فيها مادة تاريخ التشريع الإسلامي ثم ألبسه العمامة في حفل التخرج عام ١٩٤٠م. وشهد الشيخ جهوده في جمع كلمة العلماء والدعاة ورجال الجمعيات الإسلامية في سورية وتوحيد صفوفهم. ولمكانة الشيخ محمد الحامد رحمه الله عند الشيخ حيث أنه تلميذ شيخه الشيخ أبو النصر خلف رحمه الله ذهب الشيخ ينتظر وصوله في محطة القطار عائدا من مصر واستوثق منه أكثر عن حال الشيخ حسن البنا رحمه الله من علم وعمل، فحكى له عن علمه وتواضعه وقبوله للحق وما شهده من قيامه الليل وخشيته من الله تعالى ما اطمأن به قلب الشيخ. وتكللت جهود الشيخ السباعي عام ١٩٤٢م بالاتفاق على العمل على إنشاء جماعة واحدة تدعو إلى الإسلام في عموم القطر، وعقد في حمص مؤتمر للجمعيات الإسلامية في سورية ولبنان عام ١٩٤٣م، وأثمرت هذه الجهود عام ١٩٤٥م.
وخرج الشيخ إلى الحج في تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٤٥م من محطة قطار الحجاز في دمشق مرورا بفلسطين ثم سيناء ثم ترعة السويس ثم بور فؤاد ثم ركب الباخرة وفيها ثلاثة آلاف راكب وكان يدرس في أحد جهتيها حتى وصلوا جدة، ومنها ركبوا الجمال إلى مكة. وكان اللقاء مع الإمام حسن البنا حيث وقف بعباءته الحمراء وتحدث حديثًا أوصى فيه بتحفيظ الأولاد القرآن الكريم والعمل به في كل مجالات الحياة.
٧. إصلاح التعليم
وبعد تخرّج الشيخ من دار العلوم الشرعية وبقائه في حمص ملازما لحلقات علمائها ومدرسا تحت إشرافهم، شهد الشيخ تعامل مشايخ حمص مع ما أثر في ضعف تخريج العلماء من دار العلوم وذلك لتغير النظام، وتحويل مدارس الأوقاف بقصد الإصلاح إلى مرحلتين: متوسطة وثانوية، وإدخال بعض المواد، وكان الحل في إنشاء المعهد الشرعي باسم جمعية العلماء في حمص التي تأسست في آيار/ مايو ١٩٤٦م وكان الشيخ أحد أعضائها.
وكان ما ذكرت أطرافه بعض تكامل التربية الدعوية التي حظي بها جدي الشيخ محمد علي مشعل رحمه الله تعالى.
ويتبع القسم الثاني عن متابعة الشيخ مسيرةَ الدعوة التي ورثها عن مشايخه رحمهم الله تعالى.
***
ليلة الإثنين ٦ ربيع الأول ١٤٤٦ هـ
الموافق ٩ / ٩ / ٢٠٢٤م
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين