مرجعيّة  القيم عند المسلم

مرجعيّة القيم عند المسلم

التصنيف: التربية والدعوة
السبت، 24 جمادى الآخرة 1434 هـ - 4 ماي 2013
2240

منذ القرون الإسلاميّة الأولى بحث علماء العقيدة الإسلاميّة مرجعيّة المسلم في حكمه على الأمور من حيث حُسْنُها وقبحها ، وقد وصل جمهورهم إلى أنّ الحسَنَ ما حسَّنه الشرع ، والقبيح ما قبّحه الشرع . وبذلك كان الأمر فيصلاً : الشرع هو المرجع في ذلك كلّه .

بل إنّ المعتزلة الذين أعطَوا العقل دوراً في التحسين والتقبيح ، لم يَرَوْا أنّ من حقّ هذا العقل أن يُحسّن ما قبّحه الشرع ، أو يُقبّح ما حسّنه الشرع . كلّ ما في الأمر أنّهم قالوا : إنّ للعقل دوراً حين لا يكون هناك شرعٌ ، كالذي حصل في " الفترة " أي ما بعد رفع عيسى بن مريم u إلى حين بعثة رسولنا محمد r ، أو الذي يحصل مع من لم تبلغْه دعوة الإسلام .

فعلماء المسلمين إذاً ، على اختلاف مذاهبهم ، مجمعون على أنّ الإسلام ، بعقيدته وشريعته ، وحلاله وحرامه ، وتوجيهاته وآدابه … هو مرجع المسلم في وضع القيم مواضعها الصحيحة .

فحين يريد المسلم أن يحكُم على خُلُقٍ من الأخلاق ، أو توجّهٍ من التوجهات ، أو فكرة من
الأفكار : أهي من الخير أم من الشر ؟ فمرجعه في ذلك هو الإسلام . وحين يريد أن يُرجّح بين
قيمتين : أيّهما أعلى ، فيقدِّمها على غيرها إذا تعارضت معها … فمرجعه الإسلام كذلك .

ولكن حين يعاني المسلم من غبش الرؤية ، أو من هزيمة روحيّة ، وينبهر أمام حضاراتٍ زائفة تتزيَّن بزينة الحياة الدنيا … تنقلب الموازين في يديه ، فيجد نفسه خاضعاً لمواصفات أصحاب هذه
" الحضارات " . فإذا قال هؤلاء مثلاً : إنّ تعدد الزوجات ، والإكثار من النسل ، وقطع يد السارق … قيمٌ متخلّفة لا تليق بأبناء هذا العصر ، وإنّ الجهاد في سبيل الله إرهابٌ سياسيّ ، وإكراهٌ على الدخول في الإسلام ، وإنّ إيقاع عقوبة الردّة مُصادَرَةٌ لحريّة الاعتقاد ، وإنّ حصر العلاقات الجنسيّة ضمن نطاق الزواج المشروع ، هو نوعٌ من الكبت والانغلاق والتزمُّت …

إذا قال هؤلاء مثل هذه الأقوال انبرى المهزومون روحيّاً ليدفعوا ـ بزعمهم ـ هذه الاتهامات عن الإسلام ، ويُقدّموا الإسلام في ثوبٍ يرضي أذواق الأقوياء المهيمنين ويقولوا : إنّ الإسلام مطابقٌ تماماً لقيمكم وأفكاركم ، أو هو قريب منها قرباً كبيراً ، وإنّ ما ترونه من اختلافٍ إنّما هو من سوء الفهم للإسلام ، فهذه التشريعات التي تنقمونها عليه ما كانت إلا لمعالجة أمورٍ طارئة أو أحوال
شاذّة … ولم يبق لها أيّ داعٍ في عصور التطوّر التي نعيش !

ولم يعد غريباً أن نرى من المسلمين من ينادي بتحديد النسل ، وبإعطاء الحريّة التامّة للفتيان والفتيات ، ليشعروا بذواتهم ! وبترك التوجيه المباشر للطفل حتّى يختار طريقه بنفسه ، أو بإعطاء الأولويّة ـ في تربية الجيل الجديد ـ للإعداد المهني والعملي على التربية الإيمانيّة والأخلاقيّة ، أو بتقديم متطلبات الحياة العمليّة على الاهتمام ببرّ الوالدين وصلة الأرحام … لأنّها أكثر جدوى وأهميّة
ونفعاً ، وباستبعاد الحديث عن الجهاد في سبيل الله بعدما انتشرت الفضائيّات والانترنت … متأثّرين بالطروحات الغربيّة السائدة .

ووجدت مواقف جماعيّة تعبّر عن تيّارات واتجاهات إسلاميّة ، ثمّ تنطلق من رؤى المقاربة مع القيم الغربيّة في مواقف تتعلّق بحقوق الإنسان ، وتحرير المرأة ، والديمقراطيّة ، والتحالفات ، والمناهج التربويّة … وغيرها .

ولا بدّ أن نقرّر ابتداءً أنّ كثيراً من هذه المسائل اجتهاديّ يقبل الاختلاف ،
لا سيّما في تفصيلاته ، وليس لنا أن نفرض رأياً معيّناً فيه ، إنّما نُشير إلى مشكلة المرجعيّة : أهي الإسلام وقيمه الأصيلّة ، أم الغرب ومعاييره ؟!

إنّ قيم كلّ مجتمعٍ يجب أن ترتبط ، بل تنبثق ، من عقيدته وشريعته ، وكما قال الله I : } لكلٍّ جعلنا منكم شِرعة ومنهاجاً { .

لقد تحدّث سيّد قطب رحمه الله عن عاملين ، عَمِلا في الماضي على نُصرة الإسلام ، ورأى أنّهما سيعملان على نصرته في المستقبل ، إنّهما "رصيد الفطرة" و " رصيد التجربة " ، وأشار بذلك إلى ملاءمة الإسلام للنفس الإنسانيّة ، وإلى أنّ تجارب البشريّة تجعل الإسلام أكثر قبولاً جيلاً بعد جيل .

وإذا قرّرنا أنّ نظام القيم في الإسلام متوافق مع فطرة الإنسان ، فأين تكمن المشكلة عندما نعدّ كل ما يوافق فطرة الإنسان متوافقاً مع الإسلام ؟

المشكلة كما نراها تكمن في منهج الاستدلال ، وذلك حين نقرّر أنّ هذا الموقف أو ذاك متوافق مع الفطرة ، وهو إذاً متوافق مع الإسلام بالتأكيد ! ثمّ نقف عند ذلك . أي أنّ المشكلة تكمن في الخلط بين الفطرة والهوى .

إنّنا في ذلك قد نقع ضحية الهوى ! فليس كلّ ما تهوى الأنفس فطرة ! ولقد جاء التحذير من اتباع الهوى مكرّرا في القرآن الكريم مرّات عِِدَّة . من ذلك قول الله I : } يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله { سورة ص : 26 .

وقوله I : } ثمّ جعلناكَ على شَريعةٍ من الأمرِ فاتّبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون { الجاثية : 18 .

وقد يكون الفرق بين " الفطرة " و " الهوى " واضحاً من الناحية النظريّة ، ولكن في بعض المواقف التطبيقيّة يلتبس الأمر أحياناً فلا يُميّز الإنسان بين هواه ودواعي فطرته ، فإذا كان الإنسان يحرص على تحقيق العدل بفطرته ، فقد يقع في الظلم أو الطغيان ، بدافع هواه ، وهو ما حذّر منه كتاب الله تعالى : } ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى { المائدة : 8 .

وقد يحصل أن تُبنى ثقافةٌ للمجتمع ، وقيم للبشريّة ، على الأهواء . وعندها يجتمع الناس على مقياس خاطئ يقيسون به إنسانيّتهم ، ويُصنّفون المجتمعات الأخرى وفق هذا المقياس في السلّم الحضاريّ ! وليست هذه التجارب هي التي تقدّم مفتاح السعادة ، وإن استقرّ العمل بها ردحاً من الزمن ، وَكَثُر عشّاقها والمُعْجَبون بها } قل : لا يستوي الخبيثُ والطيّب ولو أعجبك كثرة الخبيث { المائدة : 100 .

والحضارة الغربيّة مثال واضح على ذلك ، فهي ـ مع تفوقها وهيمنتها ـ ما زالت تفرز صيحات التحذير من آثارها المدمّرة على الإنسان ، وهذه الصيحات لم تؤدِّ إلى سقوط هذه الحضارة أو نزع صفتها الماديّة بعد ، إذ لا يمكننا الحكم على تجربتها حكماً نهائيّاً ، ما دامت أصوات التحذير منها تنبع من داخلها . وبناءً عليه ، ليس تقليد هذه الحضارة هو استفادتنا من " رصيد التجربة " الذي يمكن أن نؤيد به هذا الدين .

ومن المهمّ هنا الإشارة إلى مسألة نبّهت عليها أدبيات موضوع " القيم " في علميّ النفس
والاجتماع ، وهي أن الثقافات تتفق فيما بينها في القيم الكبرى التي تنادي بها ، لكنها تختلف في ترتيب وتنظيم هذه القيم ، فكلّ قيمة تتضمّن عنصراً " تفضيليّاً " ، وكلّ ثقافة تتضمن " نظاماً قِيميّاً " تأخذ كلّ قيمة موقفاً فيه ، وهذا النظام يتباين بين كلّ ثقافة وأخرى .

ومقتضى ذلك أنّه قد نجد قيماً متفقاً عليها بين ثقافتنا الإسلاميّة والثقافة الغربيّة ، لكن علينا قبل أن ننادي بهذه القيمة كما ينادي بها الغرب ، أن نعرف موقع القيمة في النظام القيمي الغربي وفاعليتها
فيه ، وما يتبع ذلك من معرفةٍ بالمحتوى الذي تعنيه عند الغرب ، ومقدار اتفاق ذلك مع إسلامنا وثقافتنا

وإذا كان الأمر كذلك ، فماذا نستفيد من قولنا : إنّ قيم الإسلام تناسب الإنسان ، وتلائم فطرته ، وتقدّم أساساً سليماً لتطوّره ؟ ألا يجوز أن ننطلق من هذه القاعدة لتصحيح فهمنا للإسلام ، ولتطوير الفقه الإسلاميّ ، وآليات التحاكم إلى الشريعة الإسلاميّة ، والتعامل مع النصوص القطعيّة ؟

إنّ كثيراً من الجهد الفكريّ الإسلاميّ الحاليّ قد قدّم معالجات لهذه التساؤلات وأمثالها ، وللتمثيل لا للحصر نذكر بعض الأسماء التي أسهمت في هذه الجهود : سيّد قطب ، أبو الأعلى المودودي ، أبو الحسن الندوي ، محمد قطب ، يوسف القرضاوي ، عماد الدين خليل ، منير شفيق ، عباسي مدني ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي . ومع ذلك فما زال الموضوع مفتوحاً ، وما زالت جوانبه التطبيقيّة بحاجة لمزيد من التخطيط والتنظيم والجهد .

وإذا كُنّا نفصل بين قدسية النص ونسبية صواب الاجتهاد ، فإنّ علينا أن نؤكد كذلك أن تفاوت ما تحققه الاجتهادات من صواب يقاس بمقدار توافقها مع الأصول والنصوص ، وليس كلّ اجتهاد مقبولاً ، إنّما يُقبل من الاجتهادات ما ينطلق من معرفةٍ وفهمٍِ عميقين للنصوص والمقاصد ، ويؤسس على جهد كافٍ من الدراسة والبحث والتأمّل . أمّا أن نأخذ بالنظرة المتعجّلة للأمور ، والتي يُصدرها أفراد غير مؤهلين للاجتهاد ، بل غير ملتزمين بالإسلام التزاماً عميقاً ، أو غير مؤمنين به إيماناً صحيحاً ، فليس هذا هو سبيل الفهم الصحيح للإسلام ، وليس هو سبيل التحضر والتطوّر الذي ننشده .

والله الهادي إلى سواء السبيل .

تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

أبحاث ذات صلة

يمكنكم تحميل الأبحاث بعد الإطلاع عليها

التربية والدعوةنظرات في الخطاب الإسلامي المعاصر

نظرات في الخطاب الإسلامي المعاصر

السبت، 24 جمادى الآخرة 1434 هـ - 4 ماي 2013
التربية والدعوةأدب الاختلاف في الإسلام

أدب الاختلاف في الإسلام

السبت، 24 جمادى الآخرة 1434 هـ - 4 ماي 2013
التربية والدعوةالقوة الإدراكية (الحواس )

القوة الإدراكية (الحواس )

السبت، 24 جمادى الآخرة 1434 هـ - 4 ماي 2013