تعريف بمذكرات الشيخ محمد علي مشعل

تعريف بمذكرات الشيخ محمد علي مشعل

التصنيف: ركن الابحاث و الدراسات
الاثنين، 5 شعبان 1446 هـ - 3 فيفري 2025
70
تحميل البحث

مقدمة:
"مذكرات الشيخ محمد علي مشعل" ليست مجرد صفحات تحمل سردًا ذاتيًا، بل هي نافذة مشرّعة على حقبة زمنية حافلة بالتحديات والتحولات. يُمكّننا هذا الكتاب من الاطلاع على حياة عالم جليل وشاهد على العصر، عاصر تغييرات سياسية واجتماعية عميقة في سوريا، تاركًا بصمات لا تُمحى في ميادين العلم والدعوة والتربية. بين دفتي هذه المذكرات، تتجلى شخصية الشيخ محمد علي مشعل، متحدثًا عن سيرته الشخصية، تجاربه التعليمية، وعلاقاته مع رموز الفكر والعلم.

لمحة عن المؤلف:
ولد الشيخ محمد علي مشعل عام 1924 في قرية تَلْدَوْ بمحافظة حمص، وترعرع في كنف عائلة متدينة تُعنى بالعلم والفقه. كان والده أحد العلماء الذين كرسوا حياتهم لنشر العلم الشرعي، مما أثر في نشأته وشكّل بداية رحلته الطويلة مع العلم والدعوة. تتلمذ الشيخ مشعل على أيدي كبار العلماء، لينهل من معينهم الفكري ويتسلح بأدوات المعرفة، ما أهّله ليكون واحدًا من أعمدة التعليم والدعوة الإسلامية.

محتوى الكتاب:

المولد والنشأة:
يتناول الكتاب في بداياته نشأة الشيخ محمد علي مشعل، مسلطًا الضوء على بيئته العائلية والدينية التي زرعت فيه حب العلم والتدين. وُلد في زمن كان فيه العلم الشرعي يعدّ ركيزة أساسية للمجتمع. تتحدث الصفحات عن والده، الذي كان خليفة في الطريقة النقشبندية، وعن تربيته المبنية على أسس صلبة من القيم الإسلامية.

مسيرته العلمية:
كان طلب العلم هو الشغل الشاغل للشيخ منذ نعومة أظفاره. انطلق في رحلته التعليمية بتعلّم القرآن الكريم ومبادئ العلوم الشرعية على يد علماء بلدته، ثم انتقل إلى "دار العلوم الشرعية" بحمص. هناك، برز تفوقه العلمي، حيث كان أصغر الطلاب سنًا وأكثرهم التزامًا. استمر في طلب العلم، متنقلًا بين حلقات العلم في حمص، وحاز على إجازات علمية من أبرز علماء عصره.

الأحداث التاريخية والسياسية:

تشكل المذكرات وثيقة تاريخية فريدة، حيث تتناول بتفصيل دقيق الأحداث التي عصفت بسوريا في القرن العشرين. من بين هذه الأحداث، الإضرابات ضد الفرنسيين عام 1936، حيث برز دور العلماء في قيادة المظاهرات والمطالبة بالاستقلال. يروي الشيخ تجربته كشاهد على هذه المرحلة وكيف كان للعلماء دور ريادي في مواجهة الاحتلال.

تسلسل الحكم بعد الفرنسيين:
تناولت مذكرات الشيخ محمد علي مشعل بتفصيل محطات الحكم التي تعاقبت على سوريا بعد رحيل الاحتلال الفرنسي، مسلطةً الضوء على التحديات التي واجهتها البلاد في بناء نظامها السياسي المستقل. بعد جلاء الفرنسيين عام 1946، دخلت سوريا في مرحلة من التحولات السياسية المضطربة التي اتسمت بكثرة الانقلابات العسكرية.

1. فترة الاستقلال الأول:
بدأت هذه المرحلة بقيام نظام جمهوري، حيث تولّى شكري القوتلي منصب أول رئيس للجمهورية السورية. اتسمت تلك الفترة بمحاولات لبناء مؤسسات دولة حديثة، إلا أنها واجهت تحديات داخلية وخارجية، بما في ذلك الصراعات على السلطة وتأثيرات الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1948.

2. الانقلابات العسكرية المتتالية:
شهدت البلاد بعد ذلك سلسلة من الانقلابات التي بدأت بانقلاب حسني الزعيم عام 1949. وفي فترة وجيزة، تولّى سامي الحناوي ثم أديب الشيشكلي الحكم. كانت هذه الانقلابات تعبيرًا عن حالة عدم الاستقرار السياسي، حيث تداخلت المصالح الداخلية مع التدخلات الخارجية. أشار الشيخ مشعل إلى أثر هذه الانقلابات على الحياة العامة ودور العلماء في محاولة تهدئة الأوضاع.

3. مرحلة الوحدة مع مصر:
في عام 1958، دخلت سوريا في تجربة الوحدة مع مصر تحت قيادة جمال عبد الناصر. على الرغم من الأمل الذي حمله السوريون في هذه الوحدة، إلا أنها واجهت صعوبات تنظيمية واقتصادية، ما أدى إلى انفصال سوريا عنها عام 1961. تحدّث الشيخ عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية لهذا الانفصال، وكيف حاول العلماء التصدي للتحديات التي رافقته.

4. حكم حزب البعث:
ابتداءً من انقلاب 8 آذار 1963، دخلت سوريا مرحلة جديدة من الحكم تحت قيادة حزب البعث. تميزت هذه الفترة بتغييرات جذرية في بنية الدولة والمجتمع، مع تعزيز دور الجيش في السياسة. ركّز الشيخ في مذكراته على تأثير هذه التحولات على التعليم والدعوة الإسلامية، وكيف حاول العلماء الحفاظ على دورهم في ظل التغيرات..

وقد تطرق الشيخ إلى وصف الحكم الطائفي في سوريا من الناحية الداخلية والاجتماعية، حيث يتجلى هذا النوع من الحكم كواحد من أبرز التحديات التي واجهها المجتمع السوري.

من الناحية الداخلية، يظهر الحكم الطائفي في تشكيل سياسات إقصائية، حيث احتكرت الطائفة الحاكمة المناصب العليا في الجيش والإدارة، ما أدى إلى استياء شعبي واسع بين مختلف مكونات المجتمع. يشير الشيخ مشعل إلى استغلال الطائفة الحاكمة للسلطة لقمع الأصوات المعارضة، مما أدى إلى تفاقم الانقسامات الطائفية وعرقلة بناء دولة موحدة.

أما من الناحية الاجتماعية، فقد أشار الشيخ إلى محاولة السلطة الحاكمة إعادة تشكيل هوية المجتمع عبر تهميش القيم الإسلامية والمؤسسات الدينية. أُجبر العلماء على تقليص دورهم في توجيه الناس، بينما انتشرت مظاهر الانقسام داخل المدن والقرى، مع زيادة التوتر بين الطوائف المختلفة. ومع ذلك، أكد الشيخ أن دور العلماء كان محوريًا في الحفاظ على التماسك الاجتماعي من خلال الدعوة إلى الوحدة والتمسك بالمبادئ الإسلامية.

نشاطه التعليمي والدعوي:
لم يكن الشيخ محمد علي مشعل عالمًا منعزلًا، بل كان صاحب رؤية إصلاحية امتدت إلى تأسيس المدارس والمعاهد الشرعية. تطرقت المذكرات إلى تأسيسه لثانوية علي بن أبي طالب في تَلْدَوْ، التي أصبحت منارة علمية ودعوية. كما عمل على تطوير التعليم الابتدائي والمتوسط في المنطقة، مؤكدًا على أهمية الجمع بين التعليم الشرعي والعصري.

تطوير التعليم الابتدائي والمتوسط:
كان الشيخ محمد علي مشعل من أوائل من أدركوا أهمية النهوض بالتعليم الأساسي كوسيلة لبناء مجتمع متماسك. فبعد أن لاحظ محدودية الكتاتيب التقليدية في تقديم تعليم شامل، أخذ على عاتقه تأسيس مدارس ابتدائية ومتوسطة تجمع بين التعليم الشرعي والعلوم الحديثة.
أسس الشيخ أول مدرسة ابتدائية في قرية كفرلاها، حيث بدأت بأعداد قليلة من الطلاب وبتجهيزات بسيطة. ولكنه سعى جاهدًا لتطويرها من خلال إدخال مناهج تعليمية شاملة تضم الحساب واللغة العربية والتربية الإسلامية. لم يقتصر اهتمامه على التعليم الأساسي فحسب، بل توسع ليشمل تأسيس مدرسة متوسطة أهلية، كانت الأولى من نوعها في المنطقة، وهدفت إلى إعداد الطلاب للمرحلة الثانوية.
ومن أبرز إنجازاته في هذا السياق، تعيين معلمين أكفاء والحرص على توفير بيئة تعليمية محفزة. كما عمل الشيخ على تشجيع الأهالي لإرسال أبنائهم إلى المدارس، مما أدى إلى ارتفاع نسبة التعليم في القرى المحيطة. وقد كانت جهوده في تطوير التعليم حجر الأساس لتأسيس ثانوية علي بن أبي طالب لاحقًا، والتي أصبحت نموذجًا يحتذى به

الدور الاجتماعي:
برز دور الشيخ كمصلح اجتماعي يسعى لنشر القيم الإسلامية وتوحيد صفوف المجتمع. تناولت المذكرات تفاصيل عن نشاطاته في إصلاح ذات البين، وحل النزاعات بين الناس، فضلًا عن جهوده في الدعوة إلى الله في مناطق مثل شين والسنكري، حيث نجح في التأثير على مجتمعات النصيرية وتحقيق توافقات دينية واجتماعية.

علماء حمص الذين عاصرهم:
تشير المذكرات إلى الدور البارز لعلماء حمص في الحياة الدينية والاجتماعية للمدينة. كان الشيخ محمد علي مشعل على علاقة وثيقة بعدد من العلماء البارزين الذين عاصرهم وتأثر بهم. من أبرز هؤلاء العلماء:

الشيخ عبد العزيز عيون السود: أحد كبار علماء حمص، عُرف بتبحره في العلوم الشرعية وحرصه على نشر التعليم الشرعي. كان له تأثير كبير على طلابه وزملائه، وكان مثالًا للزهد والتقوى.

الشيخ عبد القادر خوجة: شيخ قراء حمص ومن أعلامها البارزين، عُرف بجودة إقراء القرآن الكريم وقيادة حلقات العلم.

الشيخ طاهر الرئيس: إمام المذهب الشافعي في حمص، قاد العديد من حلقات العلم في المسجد الكبير. كان له دور محوري في الحفاظ على التعليم الشرعي في المدينة.

الشيخ عبد الباسط النصر: عالم متميز في العلوم الشرعية، تتلمذ على يده العديد من طلاب العلم. تميز بحرصه على تبسيط العلوم الشرعية ونشرها بين عامة الناس.

الشيخ وصفي المسدي: من العلماء الذين أثروا الحياة العلمية في حمص، عُرف باهتمامه بتربية طلاب العلم ودعمهم في مسيرتهم العلمية.

الشيخ مصطفى السباعي: أحد الرموز الدينية والفكرية في سوريا. كان له إسهامات في الدعوة الإسلامية والتربية.

الشيخ محمود جنيد: من علماء الحديث في حمص، تميز بجهوده في شرح علوم الحديث ونشرها.

الشيخ زاهد الأتاسي: مدير دار العلوم الشرعية في حمص، كان له دور بارز في إعداد طلاب العلم الشرعي وتأهيلهم لنشر الدعوة الإسلامية.

الشيخ فوزي عيون السود: شخصية علمية بارزة ساهمت في نشر علوم الفقه والتفسير بين طلبة العلم.

الشيخ أحمد صاف: إمام متميز، عُرف بدروسه المؤثرة وبراعته في تقديم العلوم الشرعية.

دورهم وتأثيرهم:
عمل هؤلاء العلماء وغيرهم على الحفاظ على الهوية الإسلامية وتعزيز قيمها في ظل التحولات السياسية والاجتماعية. وارتبط الشيخ محمد علي مشعل بهم بعلاقات علمية ودعوية قوية، حيث شكلوا معًا جبهة علمية دعوية تسعى لإصلاح المجتمع ونشر العلم الشرعي. كما أسهموا في التصدي للتحديات التي واجهت المجتمع السوري، بما في ذلك محاولات تغريب الثقافة الإسلامية أو تهميش دور العلماء

الرسالة والمغزى:
تكمن قيمة هذه المذكرات في الرسائل العميقة التي تحملها، فهي تدعو إلى التمسك بالعلم والقيم الإسلامية في مواجهة التحديات. كما تسلط الضوء على أهمية دور العلماء في قيادة المجتمع وإصلاحه، خاصة في أوقات الأزمات.

خاتمة:
إن "مذكرات الشيخ محمد علي مشعل" هي أكثر من مجرد سرد لحياة عالم جليل؛ إنها لوحة زاخرة بالتفاصيل عن مجتمع بأكمله، وقصة كفاح من أجل الحفاظ على الدين والعلم في وجه التحديات. يخرج القارئ منها محملًا بالمعرفة والإلهام، مدركًا أن طريق الإصلاح يبدأ بالعلم والعمل الجاد.


تنويه:

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

أبحاث ذات صلة

يمكنكم تحميل الأبحاث بعد الإطلاع عليها