لشيخنا العلامة الفقيه الأديب الأستاذ مصطفى الزرقا مقالات علمية متنوعة، وقد قام بجمعها وترتيبها الأستاذ مجد مكي المشرف على هذا الموقع، وستصدر- بعون الله - في مجلدين، بالإضافة إلى بحوثه الفقهية، و فتاواه المتممة لما سبق نشره، والتي ستصدر قريباً بإذن الله. و هذه المقالة الممتعة لفضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء، سبق أن نشرت في مجلة " لواء الإسلام " في العدد الثاني عشر من السنة الثالثة عشرة: شعبان 1379 = فبراير 1960 . ونقدم للقراء الكرام في هذا الموقع الجزء الأول من هذه المقالة.
مقارنة بيانية
للعلامة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء رحمه الله تعالى
الفرق عظيم جداً بين أسلوب الحديث النبوي وأسلوب القرآن في طريقة البيان العربي . فبينهما شقَّة واسعة ، لا يشبه أحدهما الآخر لدى أهل البصر باللغة وأساليبها ، وبالمأثور المألوف من بيانها قديمه وحديثه .
وإنَّ هذا التفاوت الكبير في الأسلوبين ، إذا أنعم الإنسان فيه النظر ، وكان ذا مَلَكَة بيانية،لا يترك لديه مجالاً للشك والريبة في أنَّ الحديث النبوي والقرآن صادران عن مصدرين مختلفين.
فالحديث النبويُّ، كما سنرى من نصوصه التي سنعرض أمثلتها قريباً، جاء كله على الأسلوب المعتاد للعرب في التخاطب ، تتجلى فيه لغة المحادثة والتفهيم والتعليم والخطابة في صورها ومناهجها المألوفة لدى العرب ، ويعالج جزئيات القضايا والمسائل ويجيب عنها ، ويحاور ويناقش كما يتخاطب سائر الناس بعضهم مع بعض . ولكنه يتميز عن الكلام العربي المألوف بأن فيه لغة منتقاة غير نابية ، وأن فيه إحكاماً في التعبير ، وجمعاً للمعاني المقصودة بأوجز طريق وأقربه ، دون حشو ، ممَّا استحق به التسمية بجوامع الكلم . فهو كلام عربيٌّ من الطراز المعتاد المألوف ، ولكنه على درجة عليا من أساليب البلغاء المعهودة .
أما أسلوب القرآن فهو أسلوب مبتكر لا يجد الناظر فيه والسامع شبيهاً لـه فيما يعرف من كلام العرب وأساليبهم . يعالج الكليات ، ويفرض الأحكام ، ويضرب الأمثال ، ويوجه المواعظ ، في عموم لا تشبهه العمومات المألوفة ، وخطاب فيه من التجويد ما يجعل لـه طابعاً منقطع النظير .
فلو أُخذ قانون تشريعي ، وقُورن بأحكام القرآن الآمرة الناهية ، لما كان لـه به شبه في الأسلوب أصلاً ، ولو اتحد موضوع الأمر والنهي فيهما .
وإذا أُخذ كتاب تاريخ ، وقُورن بما في القرآن من قصص تاريخي، لما وُجد أيضاً بينهما شبه في الأسلوب ، ولو أنهما عالجا قصة واحدة .
ولو أُخذ كذلك كتاب مواعظ وأخلاق، وقُورن بما في القرآن من مواعظ لما كان بينهما أيضاً شبه أصلاً في الأسلوب، ولو اتَّحد الموضوع .
وهكذا لا يمكن أن يجد الباحث كلاماً ، أو كتاباً في اللغة العربية يمكن أن يتَّحد أو يتشابه أسلوبه وأسلوب القرآن . فهو صورة جديدة مبتكرة في البيان العربي ، جارية على قواعد العرب وطريقتهم في التركيب ، ولكنه يختلف عنها كل الاختلاف فيما نسميه بالأسلوب ، بحيث أنك لو خلطت سورة أو جملة آيات بمجموعة أخرى من الكلام العربي ، لاستطعت أن تميزها منها بسهولة .
أما الحديث النبوي فكثيراً ما يشبه أسلوبه أسلوب سائر الأقوال والحكم المأثورة ، إذا كانت بليغة . ولذلك كثيراً ما توضع الأحاديث كذباً على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فتشتبه من حيث لفظها ومعناها على السامع ، ولا يمكن البحث عن أصالتها وصحتها إلا عن طريق السند .
ومن المسلَّم به لدى أهل البصر الأدبي أنه من المتعذِّر على الشخص الواحد أن يكون لـه أسلوبان في بيانه يختلفان اختلافاً كبيراً أحدهما عن الآخر . ويجري كلٌّ منهما في ذاته على نَسَق متشابه لا يختلف في درجة بلاغته وطريقته ، ولكنه يختلف عن أسلوبه الآخر اختلافاً كلياً : فهذا مالم يعهد في التاريخ الأدبي المعروف . بل إذا أراد أحد الكتّاب أن يخرج عن الأسلوب الذي هو متميز فيه إلى أسلوب آخر فلا بد أن يظهر فيه التكلُّف ، ولا يمكن أن يتقن ذلك الأسلوب الثاني . فمابالك بهذا التفاوت الكُلِّي بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث ؟
فمن يتوهَّم من الأجانب أن القرآن هو مجموعة من تأليف النبيِّ عليه الصلاة والسلام إلى جانب أحاديثه، إنما منشأ وهمهم هذا عدم إمكانهم أن يتذوَّقوا الفارق العظيم بين الأسلوبين لكي يعرفوا إمكان وحدة المصدر فيهما أو اختلافه .
وهذا الاختلاف الواسع المدى بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي الذي يوجب الحكم باختلاف مصدرهما، يتجلَّى واضحاً لكلِّ ذي إدراكٍ في الأسلوب العربي وذوقٍ في لسان العرب، من المقارنة بالأمثلة الواردة منهما في موضوع واحد ، لأنه متى اختلف الموضوع اختلفت المقارنة وأمكن أن يُعزى اختلاف الأسلوب لاختلاف الموضوع .
فلو أننا أخذنا من القرآن آيات، ومن الحديث النبويِّ أحاديث في موضوع تلك الآيات نفسه ، لرأينا بهذه المقارنة من اختلاف الأسلوبين ، الحاكم باختلاف المصدر ، ما فيه البرهان الكافي :
1- فلْنأخذ مثلاً قول الله سبحانه في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولننظر بالمقابل في المعنى نفسه في قول النبِّي عليه الصلاة والسلام:
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوف، وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104].
(( لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ، أو لَيُسلِّطنّ الله عليكم شراركم ، فيدعو خياركم فلا يُسْتَجَاب لهم ))([1]) .
2- ولنأخذ مثلاً في موضوع الإخاء في الدين قول الله تعالى في سورة الحجرات :
{ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات: 10].
وللنظر مقابله في نفس المعنى قول النبي عليه الصلاة والسلام : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه ))([2]) ، ومعنى (يُسْلمه) أن يتركه لعدوه فلا يحميه ولا يمنعه منه.
3- ولنأخذ أيضاً قول الله عز وجل في موضوع الإخاء الإنساني العام والتآلف والتفاضل بالتقوى والصلاح، لا بالعِرْق والنَّسب، ولا بالمال والنشب .
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير } [ الحجرات: 13].
ولننظر في المعنى نفسه أقوال النبي عليه الصلاة والسلام التالية :((أيها الناس إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب . لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى )) ([3]).
(( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه )) ([4]).
(( المؤمن آلف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف )) ([5]).
4- ولنأخذ أيضاً قول القرآن العظيم في ارتباط صلاح الحياة الاجتماعية بنظام العقوبة على الجنايات ، ولننظر في مقابله قول النبي عليه السلام :
{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } [البقرة: 179]..
(( إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين صباحاً )) ([6]).
5- ولنأخذ أيضاً قول القرآن في وجوب أداء الأمانة والحكم بالعدل .
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به ، إن الله كان سميعاً بصيراً } [النساء: 58].
ولننظر في مقابله أقوال النبي عليه السلام : (( أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك )) ([7]).
(( مامن أحد يكون على شيءٍ من أمور هذه الأمة ، فلم يعدل فيهم ، إلا كبّه الله في النار )) ([8]).
(( لا تقدَّس أمة لايقضى فيها بالحق ، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير مُتَعْتَع )) ([9]).
وهكذا إذا تقصَّيْنا الموضوعات والمعاني التي وَرَدت في القرآن والحديث معاً نجد بينهما في الأسلوب هذا البون الكبير الذي يجزم معه كل ذي بصر وإنصاف أنَّ شخصاً لا يمكن أن يصدر عنه هذان الأسلوبان معاً ، ولكلٍّ منهما طابعه الخاص البعيد كل البعد عن الآخر ، وكل منهما في ذاته وفي جميع أمثلته ونصوصه متشابهٌ لا يختلف ، بل يجري على غرار واحد ، فيحافظ على طريقته المتميزة ، وعلى اختلافه عن غيره ذلك الاختلاف الكبير .
وإنه ليتجلَّى من هذه الأمثلة المقارنة ، ومن نظائرها ، ما أشرنا إليه آنفاً من أنَّ أسلوب الحديث النبوي هو أسلوب التخاطب العادي المألوف بين العرب في بيانهم وأحاديثهم ومحاوراتهم وحكمهم وأحكامهم ووصاياهم ونصائحهم، لا يخرج عن هذا السَّنَنَ المألوف بينهم، وإنما يمتاز بأنه من جوامع الكلم، ومن حكيم البيان وفصيح اللغة، وبخُلوِّه من الحشو، ومن الصور الخطابية العاطفية التي تعتمد على العاطفة وحدها دون العقل .
وبتعبير آخر: إنه يتجلَّى في أسلوب الحديث النبوي العقل الناطق بأبلغ وأوجز تعبير معتاد .
أما أسلوب القرآن فيتجلَّى فيه الابتكار الذي لم يُعهد لـه مثيل ، ولا يشبهُهُ شيء من كلام العرب في طرائق بيانه ومناهج خطابه .
([1]) رواه الطبراني في "الأوسط" (1379) من حديث أبي هريرة، وقال الهيثمي في "المجمع" 7/266 : رواه الطبراني والبزار، وفيه حبان بن علي، وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعَّفه في غيرها .
([3]) روى أحمد في "مسنده" 5/411 (23489) عن أبي نضرة: حدثني من سمع خطبة رسول الله e في وسط أيام التشريق فقال: ( يا أيها الناس، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على اسود، ولا اسود على أحمر إلا بالتقوى، أبَلَّغت ؟ ...) الحديث .
([4]) جزء من حديث رواه أحمد في "المسنده" 2/252 (7427)، ومسلم (2699) عن أبي هريرة t جاء فيه – واللفظ لمسلم- قال رسول الله e : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ... وفي آخره : ومن بَطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه)
([5]) روى أحمد في المسند 2/400 (9198) عن أبي هريرة t أن النبي e قال: ( المؤمن مألَفٌ ، ولا خير
لا يأْلفْ ولا يُؤْلف ) إسناده حسن
([7]) رواه أحمد في المسند 3/414 (15424) عن رجل من أهل مكة عن النبي e ، وأبو داود (3528) (3529)، والترمذي (1262) عن أبي هريرة .
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين